على شاطئ آلهة الجمال والحبّ

ما بين "ليماسُول" و "بافوس"

   هذا الشاطئ يقع في الجنوب الغربيّ من الجزيرة، في ساحله بعضُ سهولٍ مجاورة "ليماسول" و"بافوس"، يُزرع فيها أشجار الحمضيَّات، كالبرتقال والأفندي والليمون الحامض وكروم العنب؛ ومعظم ما يقع بين سهل المدينتين، جبليٌّ وعْرٌ، ولكن كثير الكروم المشتهرة بعنبها والمعتنى بها عناية فائقة من قبل فلّاحين نشيطين محبّين للأرض، اجتزناه في 13 نيسان ونحن مُيمّمون مدينة "بافوس"، الواقعة في الطرف الغربيّ من الجزيرة المزروعة في بحر الروم، والمواجهة لشطآن بلاد الشام، ومُلتقى الاتصال بين أوروبا وآسيا الغربيَّة، والتي كانت مهربًا لعشرات ألوف اللبنانيين، في حربهم الأهليّة وحروب الغير على أرضهم، وعند غزو العدوّ الإسرائيليّ لها في العام 1982، والذي يزال يحتلّ جنوبها.

   غادرنا المدينة، عند شروق الشمس ذات الأشعة العسجديّة الرحوم واليمُّ على يسارنا، لازورديٌّ هادئ الموج والجوُّ صافٍ والنسيمُ عليل، فلا حرّ ولا قرّ، ممّا يبعث على الارتياح والاطمئنان بأنَّ نهارنا سيكون هانئًا سعيدًا، لا تكدّره  حمَّارة قيظٍ أو صبَّارةُ بردٍ أو سماع صدَى قصف مدفعٍ أو رشَّاش أو راجمة صواريخ، كما هي الحال في "لبنان" التاعس الجدّ، الذي استوطأ حيطه كلُّ الظلام الطامعين فيه، واستضعفوه فوصفوه ليكون بيدرًا لدراسةِ مطامعهم ومختبرًا لتجربة أسلحتهم الحديثة الفتَّاكة، غير مبالين بأبرياء يُقتلون وأبنيةٍ تدمَّر فوق هاماتِ ساكنيها!

   الطريق في ضاحية "ليماسول" الغربيَّة بهيجة، إذْ إنَّ بعضها تُغطّيه وتحاوط جانبيه أشجار شوحيّة غضَّة، تجعل منه نفقًا شجريَّ السقف والجدران، تجاوره بساتين الليمون وكروم العنب؛ وما هي إلاَّ بضعة أميالٍ، جريًا في هذا النفق الظليل، حتّى رأينا على يميننا قصر "كولوسِّي" الذي بناه، في العام 1210 م، فرسانُ "مار يوحنا أورشليم – القدس"، والمشتهر قديمًا بحدائقه وكرومه وزراعة القطن وقصب السكر، ثمّ انكشف لنا البحر الهادىء الجميل وتابعنا الجري وئيدًا، في طريق تحاذي الشاطئ الصخريّ تارةً والرمليّ طورًا، وعلى جانبيها أحراج من شجر الخرُّوب والزيتون والسنديان والشوح والميموزا، المتبرّج بزهره الأصفر، وأحيانًا كروم العنب التي أخذت رؤوس دواليها، المنتصبة كالعمد أو الرماح، تفترّ عن براعم تُبشّرُ بموسم خمر طيّب، يعاملها فلّاحون نشيطون، ينساح العرق على جباههم، واقفون أو سائرون خلف محاريث آليَّةٍ بدلًا من الثيران، تشقُّ أديمها، فتنتزعُ منه كل عشب طفيليّ، تنشيطًا لإنمائها في هذا الفصل الربيعيّ، ودفعها لتعطي غلّةً سخيّةً من العناقيد، مكافأة للفلّاح الكادح على نصبه، وعرق جبينه.

   وما إن انصرمتْ برهةٌ من الوقت، حتّى مررنا بمنطقة وعرة، إنّما فوق سطحها عشرات المباني الأنيقة المتشابهة، ذات السطوح القرميديَّة الحمراء، تحيط بها جنائن غنَّاء وتجاورها ملاعب فسيحة متنوعة الأشكال، كأنّها منطقة أوروبيّة، عرفنا أنّها تخصّ ضبّاطا بريطانيّين يقطنونها ويشرفون على القاعدة البريطانيّة فيها، وهي إحدى القاعدتين اللتين لم تتخلَّ عنهما دولة "التاج البريطانيّ"، عند نيل الجزيرة استقلالها - هذا الاستقلال الذي كدَّره تقسيمها وفقًا لإرادة "تركيا" و"أمريكا"-.

   وواصلنا المسير حتى بلغنا المكان المعروف باسم "صخرة أفروديت" التي تصفها الميثولوجيا اليونانيّة بأنّها إلهة الجمال والحبّ والخصب، والموجود تمثالها الرخاميّ، العائد زمانه الى القرن الثالث ق.م.، في متحف العاصمة "نيكوسيا"، وقد ورد ذكرها في ملاحم شاعر الإغريق الأكبر، "هوميروس"، إذ وصفها وحدّد مولدها قائلًا: "إنّها ولدت من زبد البحر الأبيض"، وهي صخرة قريبة الشبه بصخرة "الروشة" في "رأس بيروت"، إنّما تمتاز عنها بسهولة منالها وبلوغها، إذ شاهدنا الناس المتنزّهين والسائحين عند حضيضها الذي يغسله ماء البحر، وتسلّقها مستطاع لمن اعتاد الرّياضة الألبينيَّة، أو لمن كانت لهم في عضلاتهم، وسوقهم وعصبهم ليونة المعيز وتيوس الجبل، وقد أبصرنا بعضهم على قنّتها ومنحدرها يتحرّكون ويهبطون؛ والأسطورةُ تقول إنّ المكان هذا مولد الآلهة المذكورة، المتقمّصة عند الرومان القدامى بشخص "فينوس" وإنّها انبعثت من زبد أمواج شاطئه، مقصد الفضوليين والمتنزّهين والسائحين اليومَ، وقد شيّد لها هيكل، غير بعيد عن ذلك المولد الأسطوريّ؛ وفي شمالي "بافوس"، مقصد زيارتنا، مسبح قيل إنّ الالهة كانت تألفه، يؤمُّه السوّاح الآن ليستحمّوا في مائه، لإيمانهم واعتقادهم بأنّه يجدّد النشاط ويقوّي الجسد ويطيل العمر؛ وقريبًا من هناك، وقد أَزفَت ساعة الهاجرة، تناولنا غداءَنا فوق أكمةٍ، تطلُّ عموديًّا، على بحر الروم، جميلة المنظر، تأخذ بمجامع القلوب، خلنا أنفسنا عليها كأنّنا في "لبنان"، على تلَّة "دير النوريّة"، التي تحتها النفق الواقع ما بين "البترون" و "شكا"، والديرُ بادٍ من بعيد كوكنة كواسر أو نسور، مشيّدة فوق بحر الشام.

   كان خُوانَنَا، الأديمُ المطرّزُ بالعشب الأخضر الطريّ، اتّخذناه مائدةً لزادنا وبساطًا افترشناه، يحاوطه شجر الشربين والدّفلى والشوح ونباتٌ آخر مختلف الأشكال والألوان، كثير الشبه بنبات "لبنان"، مثل الغِبْري، ذي الزهر الأبيض المضارع زهر الأقحوان، والأقحوان والجربان الشائك الشافع به زهره الأصفر والآس والشَّنْديب والسعتر ذي الأرج، والوزّال المنافس الجربان تلوّنًا واصفرارًا، تحوم فوقه طيور النحل وتحطّ عليه فتمتصّ رحيق أزهاره العطر، تصنع منه شهدًا كشهد نحل جرودنا وجبال الاتيك اليونانيَّة.

   بعد الشبع وتمتّع نواظرنا وأفئدتنا بكلّ ما يُريح ويُسرُّ، وقد مالت عروس السماء إلى الأفق الغربيّ المتّشح بالبهاء، أكملنا جرينا، انحدارًا ثمّ صعودًا، في سكَّةٍ تجتاز تلالًا ووهادًا وأوديةً حرجيّة مزدانة بشجرٍ برّيٍّ، وسهيلات منحدرة مغروسة بالدوالي المنسَّقَة الصفوف، وبساتين ليمون وحقول شعيرٍ لصناعة الجعة أي البيرة. ولم يطل بنا الوقت حتّى بلغنا "بافوس" المجاورة لسهل ضيّق، يقع ما بين الجبل والشاطىء، شبيه بسهل "صيدا" أو سهل "طرابلس".

مدينة "بافوس"

   ثغرٌ في القسم الجنوبيّ الغربيّ من الجزيرة، هو ملتقى حضارات قديمة بادت، وهو أوّل ما يقصده السوّاح ويُقيمون فيه أيّامًا طوالًا، للطف هوائه وعذوبة مناخه، وحداثة فنادقه واعتدال أَجْر بيوته، ولِما في جواره من مواقع أركيولوجيّة وأسطوريّة، كمثل "صَنْطَا كولونِسْ" "Santakolones" ذات الأربعين عمودًا، وخرائب مقام "ديونيزس" "Dionysos" آلهة الكروم، ذات الفسيفساء الملوَّنة، وسوى ذلك من المباني الأثريّة التاريخيَّة ومخلَّفات الآلهة الإغريقيَّة الأسطوريَّة؛ وما عدا طِيب جوّ هذا الثغر واعتدال مناخه، فإنّه قد اشتهر قديمًا، بأنّه كان في زمن البطالسة والرومان عاصمة الجزيرة الإداريَّة، وقد خرّبته الزلازلُ في القرن الرابع ب.م.؛ واليوم بات فاقدًا وزنه السياسيّ والإداريّ معًا، ولكنّه اكتسبَ شهرةً في تاريخه وآثاره وطِيب هوائه، يقصده الغرباء من بلاد الشرق الأدنى والأوسط، ويقيمون فيه بشكل موَقَّت، وفي مقدّمتهم السوريّون الذين يشتري العديد منهم داراتٍ صغيرة يسكنونها، والدولة الفتيَّة الصغيرة تسهّل لهم مثل هذا الشراء، مراعيةً سياستها التي لا تسمح بتفوّق عدديّ لمن هم غيرُ نصارى؛ والنصارى القبرصيّون، كما ذكرت، ديّنون غير متعصّبين وغير متزمّتين، لا يحقدون على الغير، باستثناء كرههم لمن تسبّب بتقسيم جزيرتهم، إذ إنّك ترى في معظم ثغورهم وقراهم مساجدَ، كمسجد "لارنكا" الشهير، المعدود من أهمّ مساجد وتكايا العالم الإسلامي، والواقع على ضفّة بحيرتها الغنيّة بملحها، لا مصلّين فيها ولا شيوخ، ولكنّها محترمة، يُحافظ عليها ويعتنى بها، كأنّها متاحف، لا يفكّر أحد بهدمها أو تشويه معالمها، كما حصل في "لبنان" الذي عبث بعض متعصّبيه ببعض دور العبادة ودنَّسها وجعل أعاليها أسافل، حقدًا وجهلًا وانتقامًا، مما سفّه المدّعين المغترّين القائلين بأنّ "لبنان" منارة ثقافة وتمدُّن تشعّ على أرجاء المعمورة كافةً.

مرفأ "بافوس"

   من أجمل وأبهج ما شاهدت من مرافىء. هو مرفأ صيدٍ، بالدرجة الأولى، يقع في الطرف الجنوبيّ الغربيّ من المدينة، تحميه اليابسة من الشمال والغرب، من غضب الرياح وهوج الأنواء والعواصف العاتية. فيه باحةٌ فسيحة تتّسع لمئات السيّارات، رأينا في شرقيّها عشرات الزوارق، منها ما هو معدٌّ للصيد ومنها المعدّ لتنزّه السيّاح عندما يصفو اليمّ، وتكون أمواجه ساكنة هادئة تدعو إلى الاطمئنان، ترسو عند جوانب الأرصفة، تتهادى بتؤدةٍ، لا يراقصها نوءٌ، ولا تثيرها عاصفة، كأنّها تُغري المتنزّهين وهواة البحر بامتطائها. ولفت انتباهنا صيّادون في هذه الباحة منشغلون بشباك صيدهم، يسرّحونها ويفكّون ما تعقّد من خروبها (خرومها – ثقوبها) وخيوطها وحبالها، وينشرونها في الشمس حتى تنشف، تساعدهم فتياتٌ مفتولات السواعد في عملهم المتعب الشاقّ، هنّ زوجات لهم أو أخوات يشاركنهم في تحصيل لقمة العيش، عن طريق بيع الحيتان، وقد تذكّرنا في هذه الساعة صيّادي "صيدا" الكادحين، الذين تصدَّر مظاهرتهم "معروف سعد" في مطلع العام 1975، مطالبين بحقوق لهم، خافوا من ضياعها وابتلاعها من قبل حيتان الجشع والاحتكار، المسيطرين على الحكم اللبنانيّ، والذي اغتالته غدرًا وحقدًا رصاصة مجرمة شرعيَّة، مهَّدت لحرب أهليّة، بدأت في 13 نيسان؛ وما هو لافت للنظر أيضًا أنَّ قلعة أثريَّة تقع في غربيّ باحة هذا المرفأ المحاوط قسمه الشماليّ بالمقاهي والمخازن البيَّاعة للتحف والمصنوع المحلّي، شيّدها في العام 1592 حاكم الجزيرة العثمانيّ، المسمَّى "أحمد باشا"، المرادف اسمه لأسماء ولاة عثمانيين عديدين، عرفتهم بلادُنا ظلاّمًا، مثل "أحمد باشا الجزّار"، والي "عكّا" و "أحمد باشا" والي "الشام"، الذي أعدم لكثرة ما قتل وجزر في أحداث "دمشق" العام 1860 وسواهما؛ وهي مشيّدة بحجارة رمليّة صلبة سمراء اللون تحيط بها مياه اليمّ، ويفصلها عن الباحة خندق مملوء ماءً، فوقه جسر حجريّ، كان في سالف الزمان خشبيًّا، يُرفع لمنع المرور في حالات الحصار.

    تمتَّعت عيوننا بمنظر هذا الأثر التاريخيّ والمرفأ العاجّ بالناس، والمتموّج بأشرعة الزوارق والمراكب، وبالباحة الضاجّة بالسيّاح، الأجانب منهم واليونانيين، الرائحين والجائين على أقدامهم أو فوق درّاجاتهم، وما أن اقترب الأصيل على الانكفاءِ وأخذت الشمس تميل متناعسة إلى الغروب، وأخذ الشفق البهيّ يصبغ الأفق الغربيّ بلونه القرمزيّ الساحر، وأخذت أشعّة عروس النهار الباهته، برفقة النسمات الطريئة، تداعب سعف شجر النخيل، الذي لم يحتكره ساحل "لبنان"، حتّى أبنا إلى منطلقنا في الصباح المبكّر إلى ثغر "ليماسول"، منتشين بخمر الطبيعة الساحرة، الذي لا يضاهيه خمر دنان هذه الكروم، التي واجهتنا وواجهناها، مع حرّاثها النشيطين، في بُكورنا ورَواحنا.

                                             يوسف س. نويهض

                                               نيسان 1985